محاضرة للدكتور محمد الدويش: عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة

د. محمد بن عبدالله الدويش
التعريف بسد الذرائع:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلّم عبده ورسوله، إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد:
فحديثنا هذه الليلة حول اعتناء الشريعة بسد ذرائع الفاحشة، ونحتاج بين يدي الحديث إلى التعريف بسد الذرائع وماذا يعنى به؟

التعريف بسد الذرائع:
سد الذرائع قاعدة شرعية معروفة، تجد الحديث كثيراً عنها عند علماء الأصول، وعرف ابن منظور الذرائع بقوله: “الذريعة الوسيلة وقد تذرع به توسل والجمع ذرائع”.
وقال شيخ الإسلام: “و الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، ولكن صارت في عرف الفقهاء يعبر عنها بما أفضى إلى فعل محرم”.
إذن فالذريعة هي الوسيلة والطريق إلى أي أمر كان، فالذي يسافر ليحصل على مقصود له نعتبر السفر هنا ذريعة لهذا المقصود، لكن هذه الجملة صارت في عرف الفقهاء خاصة في الأمور المحرمة، فعندما يقال سد الذريعة ينصرف الذهن إلى تحريم الأمور التي تكون سبباً في الوقوع بالمعصية.
ويمكن أن نعرفها بأسلوب أكثر وضوحاً فنقول: إن سد الذرائع عبارة عن أحكام حرمها الشارع ومنع منها لا لذاتها وإنما لأنها وسيلة وطريق للوقوع في الحرام، فالشارع مثلاً قد حرم شد الرحال لزيارة القبور لأن هذه وسيلة وذريعة إلى عبادتها من دون الله سبحانه وتعالى، ومنع من تجصيصها وبناء القباب عليها واتخاذ السرج إلى غير ذلك كل هذا إغلاقاً لهذا الباب، حتى لا يكون وسيلة للوقوع في الشرك.
قال ابن القيم رحمه الله: “لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهيتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، ولكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يضرب حماة، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس، وحكمته تعالى وعلمه يأبيان ذلك كل الإباء، بل ساسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع المرسلة إليه لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصولة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أكمل درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها” .
ولن أفيض في الحديث عن هذه النقطة فحديثها له مجالاته المختصة به، ومن أراد التوسع في ذلك بإمكانه أن يرجع إلى كتب أصول الفقه، لكننا نريد جانباً واحداً من هذه القضية وهي عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة.
إن هذه الفاحشة أمرها عظيم وخطبها جسيم، وهي كفيلة بتدمير المجتمعات ونزول الوباء بها ولا أدل على ذلك من أنها عرفت بهذا الاسم، فعندما يقال الفاحشة ينصرف الذهن إلى هذه الجريمة؛ ذلك أن مصطلح الفاحشة في الأصل هو كل ما يستقبح فيقال عنه أنه فاحش، ولهذا كان العرب يسمون البخيل فاحشاً كما قال شاعرهم:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفحش المتشدد
و في التنزيل يقول سبحانه وتعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء). أي البخل، وصفة البخل مستقبحة عند العرب غاية القبح، ولشناعتها وقبحها سميت بالفاحشة، وتطلق الفاحشة في الاصطلاح الشرعي على المعصية كما قال الله عز وجل (:لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة). فالمقصود بالفاحشة هنا المعصية، وليست قاصرة على جريمة الزنا أو ما شابهها من الفواحش.
لكن لشناعة هذه الجريمة وقبحها صارت”أل” هنا عهدية فعندما يقال الفاحشة ينصرف الذهن إلى هذه الجريمة البشعة والشنيعة، وهذه الجريمة يعاقب فاعلها بعقوبة قاسية لا يعرف لها نظير، فيعاقب بالرجم بالحجارة حتى يموت إن كان ثيباً، وبالجلد إن كان بكراً: (الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، فيأمر الله عز وجل بإعلان العقوبة وينهى المؤمنين بأن تأخذهم رأفة بهم لشناعة هذه الجريمة وقبحها.
ونحن أحوج ما نكون إلى الحديث عن هذه القضايا هذا العصر التي توسعت فيه في أبواب الفتن، فأصبح الشاب في هذا العصر يعيش أسير شهوته؛ وأصبحت المشكلة التي تؤرق الشاب الصغير والكبير، الشاب المستقيم وغير المستقيم، المحافظ والمتجاوز لحدود الله، أصبحت مشكلة الجميع وحديث الجميع هي هذه الشهوة وما تجره على صاحبها من ويلات.
وأما الآخر الذي في قلبه خوف من الله تعالى، وشعور بالإيمان، فيتصارع الدافعان أمامه: دافع الشهوة، ويغذي هذا الدافع ما يراه من صور ومفاتن اجتهد أعداء الله وتفننوا في إثارة غريزة الشباب والفتيات من خلالها، وسخروا كل وسائل العصر وما تفتق عنه العلم المعاصر لأجل الإغراء والفتنة، وساهم كثير من أبناء جلدتنا في ذلك -إما عن غفلة أو عن عمد وسبق إصرار- في إضلال الناس، ثم بعد ذلك يتحدثون عن العفة ويتحدثون عن عقوبة من يقع في ذلك ولسان الحال يقول:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء

و سر في أنحاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً فترى مظاهر السفور والإغراء، وترى أنواع الدعوة الصريحة والمغلفة إلى هذه الفاحشة، والدافع الثاني هو: دافع الإيمان والخوف من الله عز وجل والذي يذكره بقول الله سبحانه وتعالى: (و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا). وقوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعملاً صالحاً…). ويتخيل أمام ناظريه ذلك الوعيد الشديد والمستقبل المظلم الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلّم لما يتعرض له الزاني في حياة البرزخ في قبره قبل أن يصير إلى البعث والنشور، عن سمرة ابن جندب – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:”رأيت الليلة …..وفيه….قال: فانطلقا بي فإذا بمثل التنور أسفله واسع وأعلاه ضيق وإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفلهم فإذا آتاهم اللهب ارتفعوا وضووا وصيحوا فقلت: من هؤلاء فقيل هؤلاء هم الزناة والزواني” وهذا في حياة البرزخ فما بالك بما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى؟
ولست بحاجة إلى أن أحدثك عن ما يجنيه من يتجرأ على الفاحشة في الحياة الدنيا من العقوبات الدنيوية التي أولها وأشدها أن يصرف قلبه عن الله سبحانه وتعالى، فيحرم من لذة عبادة الله والتوجه إليه والإقبال عليه سبحانه وتعالى، وأحري بعد ذلك بهذا القلب أن يعيش حياة النكد ويعيش حياة الخسران، فيحرم أعلى لذة وأعلى نعيم يجده العبد في الحياة الدنيا، وأن يتعلق قلبه ويتوجه لغير الله، وأن يعاقب بمرض جنسي تكون نهايته بسبب هذا المرض كما قال صلى الله عليه وسلّم: “خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله عز وجل بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم” وهذه عقوبة دنيوية لمن يتجرأ على هذه المعصية.
إن الشاب يعيش هذا الصراع وكثيراً ما يتساءل: إني أعيش جحيم الشهوات، فكيف أتخلص منها، وكيف أنجو من هذه الشهوة، فكان لابد من الحديث عن هذا الموضوع من جوانب شتى وزوايا عدة، ومهما تحدثنا عن هذا الموضوع بصورة أو أخرى فأجزم أننا لن نعطيه حقه، والدليل على هذا ما نراه من أسئلة توجه إلينا في مثل هذه اللقاءات، أو رسائل تأتي في البريد أو مشاكل خاصة يفضي بها الشاب إلينا، إن هذا كله دليل على أن الموضوع يحتاج إلى حديث أكثر وإلى طرق أكثر.
ومن ثم كان الحديث عن جانب مهم من جوانب علاج هذه المشكلة وهو سد الذرائع، فنتحدث الآن عن بعض الأحكام الشرعية التي شرعها الله سبحانه وتعالى سدًّا لذريعة هذه الفاحشة، وقد نطيل فهيا قليلاً، ثم بعد ذلك ننطلق إلى النتائج والجوانب التي يجب أن نستخلصها سواءً استخلصها الشاب في نفسه أو المربي الذي ولاه الله سبحانه وتعالى مسؤولية من استرعاه أمانته.

بعض الاحكام الشرعية المشروعة لسد ذريعة الفاحشة
أولاً: التغليظ في حد الزنا:
لقد أغلظت الشريعة عقوبة الزاني، وأمرت بإعلان الحد، ونهت عن أن تأخذ المؤمنين رأفة بالزناة والزواني، وسبقت الإشارة إلى هذه القضية، وهذا من أعظم الروادع.

ثانياً:حد القذف:
لحد القذف حكم بالغة، منها حماية عرض المسلم فلا يصبح عرضه كلأً مباحاً يلوكه أي إنسان، والحكمة الثانية: أن التساهل في القذف، يدعو إلى أن تكون الفاحشة أمراً سهلاً ومستساغاً عند الناس؛ فيسهل بعد ذلك الوقوع فيها لكن عندما يفرض هذا السياج حول هذا الأمر وما يتعلق له لا يجرؤ الإنسان أن يقول فلان فعل كذا أو فلان وقع في كذا وكذا إلا وعنده بينة، فإذا طالب المقذوف بحقه ولم يأت بالبينة، فيشرع أن يعاقب بحد القذف بأن يجلد ثمانين جلدة، وألا تقبل له شهادة أبداً، وأن يحكم بفسقه، إلا أن يتوب بعد ذلك.
و هذا الحد فيه سد لذريعة الفاحشة، لأن فتح الباب على مصراعيه للجميع يتحدث عن هذا الأمر مدعاة لأن تصبح الفاحشة قضية تلوكها الألسنة وتتحدث عنها كثيراً.

ثالثاً الأمر بالزواج:
من الوسائل التي فيها سد لأبواب الفاحشة الأمر بالزواج، وجعله من سنن المرسلين، قال الله سبحانه وتعالى: (و لقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله). ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنن المرسلين الزواج والنكاح، قكما أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فقد جعل الله عز وجل لهم الأزواج والذرية. ويقول صلى الله عليه وسلّم: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ،”وقال:”إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه” وكل هذه النصوص وغيرها تأمر وتحث على الزواج من أجل تيسير وفتح هذا الباب من جانب، وإغلاق وسد باب الفاحشة والذريعة إليها من جانب آخر.

رابعاً: الأمر بغض البصر:
النظر هو بريد الزنا وهو الخطوة الأولى لمواقعة الفاحشة عافانا الله وإياكم قال تعالى:(قل للمؤمنين يغضون من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون).. وختم الآية بقوله ((خبير بما يصنعون)) يدل على دقة العلم، وهي تدعو إلى أن يشعر الناظر أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه، وأنه سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، إنه قد يكون أمام الناس فينظر نظرة لا يظن من حوله بها إلا خيراً، ولكن في قلبه غير ذلك، والله سبحانه وتعالى هو وحده العالم بما في قلبه
يقول جرير بن عبدالله رضي الله عنه:” سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري” والحديث رواه مسلم وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري تعليقاً ورواه مسلم عن أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم:” كتب على ابن آدم حظه من الزنى فهو مدركه لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخطى، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه” وفي رواية أخرى “فالعين تزني وزناها النظر والأذن تزني وزناها السماع” ، وهنا يتبادر سؤال: لماذا بدأ بالنظر قال: “زنى العين النظر”، يقول ابن القيم رحمه الله: فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلّم بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج”.
وأريد أن أوقفكم معشر الشباب عند حديث طالما تأملت فيه كثيراً يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: “إياكم والجلوس في الطرقات ، قالوا : يا رسول الله ما لنا منها بد، مجالسنا ،قال: فأعطوا الطريق حقه ، قالوا: وما حق الطريق ، قال : غض البصر إلى آخر الحديث..” ، والشاهد هنا غض البصر، ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلّم أولاً يخاطب أصحابه وقد كانوا في بيئة محافظة، والنساء كن يتحجبن، وكانت المرأة تلتصق بالحائط حتى يكون في الحائط أثر من التصاقها به،وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم :”استأخرن فإنه ما يكون لكن أن تحققن الطريق” ، ففي هذا الوسط الذي لم تكن المرأة تخرج فيه إلا لحاجة، وإذا خرجت خرجت متسترة ملتصقة بالحائط، ومع ذلك لم يأمرهم صلى الله عليه وسلّم بغض البصر ابتداءً، بل نهاهم عن الجلوس في الطريق وإذا اضطروا إلى الجلوس في الطريق فليغضوا البصر.
وإذا تأمل الشاب هذا المعنى أدرك أنه لابد أن يكون حازماً مع نفسه، لإغلاق المنافذ إلى شهواته وأهوائه، فكم يفتح الشاب على نفسه الأبواب ثم يتساءل أنا أشتكي من الشهوة، ولو أغلق الأبواب على نفسه، واتبع هذا الأدب النبوي الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلّملأراح واستراح.
يقول أحد العلماء الألمان (عالم غربي): لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلّم (و قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم). رأت امرأة رجلاً ينظر إليها وهو يطوف بالبيت، فقالت:

و كنت متى أرسلت طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا أنت قادرٌ *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر

إنك حين تنظر إلى النساء وهن متبرجات غاية التبرج من خلال التلفاز أو من خلال المجلات أو أي مصدر آخر، وتمتع نفسك من خلال هذه المناظر، النتيجة التي جنيتها من هذا كله أنك أشعلت الجحيم في قلبك، وهذه الصورة التي رأيتها ما زالت ترتسم في ذهنك؛ فيبدأ الشيطان يعيد عليك الصورة مرة وثانية وثالثة فتعيش في قلق لا يطاق، وفي النهاية لم تحصل على شهوتك، ثم لو حصلت عليها فسوف تعيش جحيماً أشد وعذاباً أشد، فالذي يغض بصره يعيش في راحة عظيمة.
وحتى الإنسان الذي لا يردعه دين ولا يؤمن بالأديان، لكنه يملك عقلاً ناضجاً فإنه يعتبر غض البصر علاجاً لنفسه.
وحين يتزوج الشاب وقد كان حافظاً لبصره قبل الزواج، تكون زوجة محل رضا العين والقلب، لكن الإنسان الآخر الذي لم يحفظ بصره لا يجد المرأة التي يرضى بها وتقر بها عينه، لأنه اعتاد على هذه المظاهر من خلال إطلاق بصره هنا وهناك، وقد تنشأ مشكلات من جراء ذلك وهذا من شؤم هذه المعصية، وهذه الخطوة تتابع الإنسان في كل مكان.
لقد أطلت في الحديث عن إطلاق البصر، لأني أعتقد أنه من أهم الذرائع وأخطرها، بل هناك أحكام شرعت لأجل منع النظر الذي هو ذريعة لما بعده، ولهذا لا أقول لك غض البصر، بل أقول لا تجلس في المواطن التي تحتاج فيها أن تغض بصرك أصلاً، فبدلاً من أن أقول لك حين تذهب إلى السوق غض البصر أقول لا تذهب إلى السوق ابتداءً، أو إلى تلك المواقع التي تحتاج فيها إلى غض البصر، إلا عندما تضطر فإذا اضطررت فغض البصر، وهذا هو الأدب النبوي الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه الذين كانوا يعيشون في مجتمع مثالي من المحافظة والبعد عن مواطن المعصية فكيف بنا نحن.

خامساً: مشروعية الحجاب:
فقد فرض الله الحجاب على نساء المؤمنات بقوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). ولا خلاف بين أهل العلم في وجوب الحجاب وفرضيته، إنما اختلافهم في بعض تفاصيله، وهم متفقون أيضاً أنه إنما شرع سداً لذريعة الفاحشة.

سادساً: نهى النساء من التبرج والسفور وإثارة الرجال:
قال تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى…). :ويقول تعالى(:وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدبن زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن…). وقال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: “صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها” كاسيات: أي عليهن لباس لكن هذا اللباس أشبه ما يكون بالعرى، وأحياناً بعض اللباس يزيد المرأة فتنة فهي في ظاهرها كاسية ولكن حقيقتها عارية.
وجاء الشرع بالأمر ببقاء المرأة في بيتها كما في الآية السابقة، ويقول صلى الله عليه وسلّم:”المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع”.
ومن ذلك أيضاً أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد يقول النبي صلى الله عليه وسلّم لأم حميد الساعدي وهي أم حميد الأنصارية زوجة أبي حميد الساعدي رضي الله عنها وقد قالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك قال:”قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتكِ في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قدمك خير لك من صلاتك في مسجدي “رواه أحمد فهذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي تضاعف فيه الحسنات، والصلاة فيه بألف صلاة، ومع ذلك فصلاة المرأة فيه دون صلاتها في يبتها، لماذا كل هذا؟ لأجل سد ذرائع المعصية، وحماية المجتمع.
وحين تخرج لابد من ترك الزينة والتطيب لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن تفلات” رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة، أي غير متطيبات ومتجردات من الزينة كلها، وأما إذا استعطرت فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم :” أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية…” ، بل أمرت أن تغتسل المرأة غسل الجنابة من الطيب إذا أرادت أن تخرج
ومن ذلك تحريم الخضوع بالقول ،قال تعالى: (فلا تحضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً). والأذن تعشق قبل العين أحياناً –كما قيل- لذا نهيب بالمرأة عن الخضوع والتكسر في القول.

سابعاً الأمر بالاستئذان:
ومما شرع سدًّا للذريعة: الأمر بالاستئذان عند دخول البيت يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). ويبين النبي صلى الله عليه وسلّم الحكمة من الاستئذان في حديث سهل عند مسلم قال: “إنما جعل الإذن من أجل البصر” ، أي ما شرع الاستئذان إلا من أجل البصر إذن فالأمر بالاستئذان لأجل ألا تقع عينه على أمر محرم في البيت، كأن تكون المرأة قد وضعت ثيابها، وتكون في مظهر مبدية فيه للزينة وهذا مدعاة للوقوع في الفتنة.
ومن ذلك الأمر باستئذان الصغير كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم). حتى الصغير ينبغي أن نربيه على أن لا يدخل على والديه إلا باستئذان فقد يرى ما لا ينبغي أن يراه ،قال تعالى: (و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم). فتزاد الآن حدود الاستئذان.
والمفترض أن لا نقف عند الظاهر فقط؛ فالمسلم يلتمس الحكمة من وراء ذلك، فالذي أمرك بالاستئذان هو الذي أمرك بالحجاب.
وحين تتأمل فيما يفعله كثير من الناس ترى صوراً من التناقض، كالذي يأمر محارمه بالتحجب عن الأجانب، ولكن الخادمة لها أن تكشف له ولغيره من الأجانب، أو كالذي يأمر ابنه بأن يغض بصره ويسمح له بأن ينظر إلى التلفاز بما يحويه من سفور وتبرج، فعلينا أن ندرك أسرار حكم الله سبحانه وتعالى.

ثامناً: تحريم الغناء:
ومن ذلك تحريم الغناء، ولتحريمه حكم منها أنه يصد عن القرآن فالإنسان الذي يتلذذ بسماع الغناء لا يتلذذ بقراءة القرآن أو سماعه، ولذا يثقل القرآن والموعظة على بعض الناس، وهذا مصداق لقول الله عز وجل :(و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين* وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً). فحب الكتاب وحب ألحان الغناء لا يمكن أن يجتمعا في القلب، فهذا مزمار الشيطان وصوت الشيطان وذاك كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يجتمع النقيضان، فإذا وجد صوت الشيطان لابد أن يرحل كلام الله سبحانه وتعالى.
والحكمة الثانية -التي هي الشاهد هنا – أن الغناء رقية الزنا وبريد الزنا؛ فكل ما في الغناء يدور حول الحب والغرام والعشق وما يتعلق بها، وهذا أمر يدركه كل من ابتلاه الله وتاب إليه.
يقول الفضيل: “الغناء رقية الزنا” . ويقول يزيد بن الولي: “فإن الغناء داعية الزنا ” ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “و أما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم أسباب الوقوع في الفواحش” والشاب ليس بحاجة إلى من يثير شهوته.

تاسعاً: تحريم سفر المرأة دون محرم:
من الذرائع التي سدت سفر المرأة بدون محرم يقول صلى الله عليه وسلّم : “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها” والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة، وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عباس قال :قال صلى الله عليه وسلّم : “لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم” فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال انطلق فحج مع امرأتك”.
ويسقط وجوب الحج عند جمع من الفقهاء عن المرأة إن لم تجد محرما.

عاشراً: تحريم الخلوة بالأجنبية:
سبق في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما : “لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم” وفي الصحيحين من حديث عقبة:”إياكم والدخول على النساء” فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلّم : “الحمو الموت”.

الحادي عشر: التفريق بين الأولاد في المضاجع:
ومن الأحكام أيضاً التفريق بين المضاجع كما في المسند وأبي داود والحاكم من حديث عبدالله ابن عمرو يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع”.
هذه بعض الأحكام الشرعية التي شرعت من أجل سد ذريعة هذه الفاحشة، وحماية المجتمع منها.
ولقد اعتنى أهل العلم في التأكيد على مراعاة هذه الآداب، عند حديثهم عن المدارس وما ينبغي لمعلم الصبيان.
يقول الحافظ ابن حجر الهيثمي في كتاب (تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال): “فصل فليحذر المعلم من نظر المرد الذين يعلمهم”وذكر بعض النصوص في النظر ثم قال: قال بعض التابعين: “ما أنا خوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقصد إليه” وكان يقول “لا يبيتن رجل مع أمرد في مكان واحد، وأقوال السلف في التنفير منهم والتحذير من رؤيتهم ومن الوقوع في فتنتهم ومخالطتهم أكثر من أن تحصى”.
وفي هذا العصر يتأكد مراعاة هذا الأمر، ومع انفتاح هذه الأبواب وكثرتها عافانا الله وإياكم كان لابد من الحديث والعناية بهذا الجانب.

واجبنا تجاه هذه القضية
يتمثل الواجب علينا تجاه هذه القضية في أمور:

الواجب الأول:
يتعلق بالشاب نفسه، فمن أهم ما يجب عليه أن يغلق الباب ابتداءً وكما ذكرنا ونكرر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلّم: “من إياكم والجلوس في الطرقات” فليكن حازماً، ولا ينخدع بثقته بنفسه وأنه لن يقع فيما وقع فيه غيره، ثم يفاجأ في النهاية أن الشيطان تمكن منه، وكل إنسان يعلم من نفسه أي الأبواب التي يمكن أن يدخل معها الشيطان لإيقاعة بالمعصية، فليسد هذا الباب، وليعلم أن هذا مقصد من المقاصد الشرعية.

الواجب الثاني:
يتعلق بالمربي سواء كان أبا أو أستاذا أو موجهاً، فعلى المربين أن يدركوا مسؤوليتهم تجاه هذا الأمر، وأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة والمسؤولية التي ولاهم الله إياها .وعلى الآباء والأساتذة أن يدركوا معاناة من يربونه سواءً كان شابًّا أو فتاة، ذلك أن الأب أو الأم اللذين تقدم بهما السن وقد عاشا في عصر يختلف عن هذا العصر، يحاكمان أبناءهم وبناتهم من خلال ذلك العصر الذي عاشوا فيه، فالمغريات والفتن ليست كما هي الآن، فعلى المربي أن يعيش بعقلية المتربي، وأن يفكر في مشكلته ويتصور حجم المشكلة والمعاناة التي يعانيها.
إن من حق من نربيه أن نقدم له النصيحة أن نعينه أن نأخذ بيده أن يشعر أننا معه ونشعر بمعاناته ومشكلته، لكن الجميع يعيشون في وادٍ وهؤلاء في وادٍ آخر.
ثم يسعى بعد ذلك إلى أن يهيئ له البيئة الصالحة والمناخ الصالح .
وعليه أن يجنبه الذرائع كذلك ويغلق عليه أبواب الفتن، خلافاً لبعض الآباء الذي يكون وسيلة لجر الفساد إلى ابنه، فهو الذي يؤمن له أجهزة اللهو، وهو الذي يمكن ابنه من السفر، وهو الذي يدعوه إلى الفاحشة بصورة غير مباشرة وغير صريحة من حيث يشعر أو لا يشعر.
جانب آخر أحب أن أقف عنده قليلاً وهي مشكلة نعاني منها كثيراً وهي :”التوازن بين الخوف والثقة”.
قد يتبادر إلى ذهن المربي أن بعض التصرفات إنما تعكس مظهراً من مظاهر عدم الثقة، فيؤدي ذلك إلى التساهل من قبل بعض المربين.
إننا لا ندعو المربي أن يكون الشك هو طبيعته وسجيته، وسوء الظن هو المقدم دائماً عنده، لكن في المقابل لا نريده أن يكون مغفلاً، فالشرع الذي ينهى عن سوء الظن وأخبر أن كثيراً من الظن إثم والأمر بالاجتناب عنه، هو الذي وضع تلك الضمانات سدًّا لذرائع المعصية.
الواجب الثالث:
واجبنا تجاه المجامع، فيجب أن نسهم بكل وسيلة في حماية المجتمع من مظاهر الفاحشة والفساد التي أصبحت تعج بها المجتمعات، مظاهر السفور، ومظاهر التبرج ومظاهر التكسر والمجلات والصور والأفلام إلى غير ذلك، وأن نحاول أن نقف جميعاً صفًّا واحداً ونشعر أن هذا المجتمع مجتمعنا وأننا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في سفينة وهؤلاء الذين يقعون في هذه المعاصي هم الذين يخرقون السفينة، وقد نغرق جميعاً فعلينا أن نحافظ على المجتمع صيانة بعد ذلك لأبنائنا وأحفادنا.

اسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

Leave a Reply

*