محاربة الاستغلال الجنسي للاطفال في الانترنت.. التجربة البريطانية

بقلم: د.وليد الروضان

في آخر يوم من أيام المؤتمر الثالث لأمن الحاسبات و التحري الرقمي، و الذي عقد في أواخر عام 2009م في مدينة ليدز البريطانية. دخل آخر المتحدثين في المؤتمر، رجل ضخم مهاب يرتدي بزَّةً عسكرية، وبعد أن عرّف بنفسه (السيد/ Jim Gamble)، قال فورا و هو يشير الى الحضور من أساتذة أكاديميين و باحثين:
– ” بحسب الاحصائيات فإن ما يقارب الـ 15% منكم سبق و أن بحثوا أو شاهدوا موادا جنسية تتضمن أطفالا غير بالغين، و مهمتي هي أن أقبض على هؤلاء و اسلمهم للعدالة! “

و في خضم دهشة الجميع و صدمتهم من جرأة حديثه، أردف:
– ” لا تتوقعوا مني أن أخجل منكم، لقد وجّهت الكلام نفسه لبابا الفاتيكان و كبار قساوسته قبل أيام على مائدة العشاء التي أقامها على شرفي في الفاتيكان! “

ثم أضاف بنبرة حزينة:
– ” بعد أن ترى مشاهدا لأطفال لم يسقط حبلهم السري بعد، يتم التحرش بهم جنسيا بطريقة وحشية، اعتقد انك لن تقف أمام أمور تافهة مثل مراعاة شعور الأكاديميين! “

اسلوبه غير المألوف في مثل هذه المؤتمرات، كان يحمل دلالة واضحه على كم الحماس الذي يسكنه لأداء مهامه الموكلة إليه. تحدث السيد Gamble قرابة الساعتين، ليكشف حقائق مهمه و مثيرة عن التجربة البريطانية في هذا المجال.

Jim Gamble هو ضابط رفيع المستوى في المملكة المتحدة و يشغل منصب رئيس مركز حماية الأطفال من الإستغلال الجنسي في الانترنت أو ما يعرف بـ Child Exploitation and Online Protection Centre (CEOP)، و كان قد تلقى في بداية العام الحالي ‘ميدالية المَلِكَة للشرطة’، نظير شجاعته و تفانيه في عمله. و يكفي أن نعرف أنه كان يشغل منصب رئيس مركز استخبارات مكافحة الارهاب في إيرلندا الشمالية، لنعرف مدى جدية بريطانيا في الحد من ظاهرة الاستغلال الجنسي للإطفال في الانترنت.


Jim Gamble

بداية، يجب أن نُقر بأن استخدام الانترنت كوسيلة من وسائل نشر المواد الاباحية و التي تتضمن تحرشا جنسيا بأطفال قُصَّر هي ظاهرة منتشرة في كل انحاء العالم و يجب محاربتها و الحد منها. لكن اذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحجم الهائل للفضاء السايبيري و الكم الضخم من المعلومات التي تتنقل بين أجهزة المستخدمين، بالإضافة الى سهولة التخفي و صعوبة فرض قوانين صارمة في الانترنت، فإننا سرعان ما ندرك أن هذه الحرب لن تكون سهلة على الإطلاق، و تتطلب إمكانات هائلة جدا.

نحن هنا لسنا بصدد بحث أسباب ظاهرة الاستغلال الجنسي للإطفال، بل بصدد تسليط الضوء على التجربة البريطانية في محاربة هذه الظاهرة.

الـ CEOP يُعرِّف المُستغِل جنسيا للأطفال، بأنه أي شخص يحمل رغبة كامنة في ممارسة الجنس مع الأطفال و يتصرف تصرفات مرتبطه بتلك الرغبة. و هذا يشمل كل من يبحث عن أو يشاهد أو ينشر أية مواد جنسية لأطفال قُصَّر. أيضا يشمل كل من يدعم الاستغلال الجنسي للأطفال ماديا أو معنويا كتشجيع هذه الظاهرة من خلال الكتابة عنها في الانترنت.

شخصيا، أصنف المستغلين جنسيا للأطفال في الانترنت إلى ثلاثة أصناف:
1- الأشخاص الذين يقومون بتصوير أو تسجيل مواد إباحية مع أطفال و نشرها أو الإحتفاظ بها. و من المؤسف ان نعرف أن النسبة الأكبر من هؤلاء هم أشخاص من ضمن عائلة الطفل المُستغَل جنسيا!
و بحسب السيد Gamble فإن معظم الدراسات التي شملت مناطقا مختلفة من العالم تؤكد هذه الحقيقة الصادمة!

2- الأشخاص الذين يحاولون استدراج الاطفال من خلال الانترنت للممارسة الجنس سواءا جسديا، صوريا، صوتيا، كتابيا، أو حتى القيام ببعض الأعمال ذات الإيحاء الجنسي.
و بحسب دراسة أعدها الـ CEOP مؤخرا، فإن 56% من محاولات استدراج الاطفال عبر الانترنت تتم عبر برامج التخاطب المباشر (كمواقع الدردشة أو برامج الماسنجر).

3- الأشخاص الذين يبحثون عن مواد إباحية أو يشاهدونها، أو حتى يدعمون التحرش الجنسي بالإطفال، و هم يشكلون السواد الأعظم. و في الغالب فإن هذه الفئة من الأشخاص تستخدم برامج تبادل الملفات أو ما يعرف ببرامج الـ P2P مثل برنامج Limeware.

تم انشاء الـ CEOP قبل ما يربو عن السنتين لملاحقة جميع الأصناف أعلاه و تسليمهم للعدالة، بالإضافة إلى توعية المجتمع بخطورة ظاهر الاستغلال الجنسي للأطفال في الانترنت.
و هذا المركز هو مركز حكومي ضخم يضم نخبة من أفضل المتخصصين في الحاسب الآلي بخبرات متميزة، و مجموعة من التحريين الجنائيين البريطانيين، كما يحتوي على أجهزة و معدات ذات طاقة حوسبية هائلة. كما أن المركز يشمل قوات دهم عسكرية خاصة (تماما كقوات مكافحة الإرهاب)، لمداهمة المُستغلين جنسيا للأطفال في مواقعهم. و المركز مرتبط بشبكة خاصة بمراكز مماثلة في أنحاء مختلفة من العالم (أمريكا – كندا – ايطاليا – استراليا) لتبادل المعلومات بشكل فوري.
و للمركز موقع على الانترنت يقدم خدمات و معلومات في غاية الأهمية، كقائمة بأسماء المطلوبين الهاربين عن العدالة و صورهم، و نماذج مبسطه للتبليغ عن حوادث الاستغلال الجنسي، و العديد من المواد التوعوية.

و لأقرّب لأذهانكم مدى قوة المركز المؤسساتيه و التقنية، أذكر لكم حادثة تكلم عنها السيد Gamble في معرض حديثه:
في إحدى مشاهد التحرش الجنسي التي تحصَّل عليها المركز، كان المتحرش جنسيا بالطفل يجلس على اريكة ذات لون مميز. و تبين للمركز أن هذا النوع من الأثاث و بهذا اللون تحديدا دخل منه إلى بريطانيا ما يقارب الـ 460 قطعه فقط من خلال متجر أثاث مشهور. و في غضون ايام تحصَّل المركز على قائمة بأسماء جميع من قاموا بشراء أريكة مطابقة للتي بالمشهد، و بعد أسابيع قليلة من التحري و التقصي، تم القبض على الشخص المطلوب، و الذي تبين للأسف أنه والد الطفل الذي كان يتحرش به جنسيا في المشهد!

من انجازات المركز المذكورة في التقرير السنوي للعام 2007/2008م:
– تم انقاذ 131 طفل من الاستغلال الجنسي، 18 منهم تم التوصل اليهم عن طريق صور اباحية تحصّل عليها المركز.
– تم القبض على 297 مستغل جنسي للأطفال و تسليمهم للعدالة.
– تم تفكيك 6 شبكات متخصصة لتبادل مواد اباحية لأطفال أو لاستدراج الأطفال.
– تمت معالجة أكثر من مليون صورة إباحية لأطفال عثر عليها في الانترنت، و مواد أخرى يبلغ حجمها 400 جيجابايت.
– تم تدريب أكثر من 2600 ضابط لمحاربة الاستغلال الجنسي للأطفال في الانترنت.
– تم تلقي و معالجة أكثر من 5812 بلاغ من خلال موقع المركز.
– تم تدريب أكثر من 11000 مدرس على برامج التوعية ضد الاستغلال الجنسي للأطفال في الانترنت.
– تمت توعية أكثر من 1.7 مليون طفل (ما بين أعمار الـ 8 و الـ 16) بخطورة الاستغلال الجنسي للأطفال في الانترنت و كيفية اكتشافه و التبليغ عنه.

بقي أن أذكر، أن جميع العاملين في المركز يخضعون لجلسات علاج نفسي “إجبارية” لأكثر من مره في الأسبوع، فبعض حالات الاستغلال الجنسي للأطفال قد تسبب انهيارا عصبيا لمنسوبي المركز العاملين عليها.

ختاما، أعتقد أن الجميع مدرك لحجم المخاطر التي استجدت مع ظهور الثورات التقنية في العقدين الماضيين، ففي هذه الايام لا يعني وجود الأطفال في المنزل أنهم بمعزل عن العالم الخارجي و الذي يضم أناسا قد لا نرضى أبدا أن يكونوا قريبين منهم.
أتمنى أن تؤخذ التجربة البريطانية في هذا المجال بعين الاعتبار، و هي تجربة جبارة دون شك. كما أتمنى أن نشاهد مراكز متخصصة في المملكة العربية السعودية شبيهة بمركز الـ CEOP، فالحاجة لمثل هذه المراكز هي برأيي ملحة، من أجل حماية أطفالنا من الوجه القبيح للتقنية الحديثة.

د.وليد الروضان

للمزيد:

– http://www.ceop.gov.uk
– http://www.virtualglobaltaskforce.com
– http://www.youtube.com/user/ceop
– http://en.wikipedia.org/wiki/Jim_Gamble
– http://en.wikipedia.org/wiki/Child_Exploitation_and_Online_Protection_Centre

Leave a Reply

*